أبو جعفر عليه السلام ـ فيما كَتَبَ إلى سَعدِ الخَيرِ ـ : بسمِ اللّه ِ الرّحمنِ الرّحيمِ ، أمّا بَعدُ ، فإنّي اُوصِيكَ بِتَقوَى اللّه ِ ؛ فإنَّ فيها السَّلامَةَ مِن التَّلَفِ و الغَنيمَةَ في المُنقَلَبِ . إنّ اللّه َ عَزَّ و جلَّ يَقِي بِالتَّقوى عَنِ العَبدِ ما عَزُبَ عَنهُ عَقلُهُ .، و يُجَلّي بِالتَّقوى عَنهُ عَماهُ و جَهلَهُ ، و بِالتَّقوى نَجا نُوحٌ و مَن مَعهُ في السَّفينَةِ و صالِحٌ و مَن مَعهُ مِن الصّاعِقَةِ ، و بِالتَّقوى فازَ الصّابِرونَ و نَجَت تِلكَ العُصَبُ .مِن المَهالِكِ. و لَهُم إخوانٌ على تِلكَ الطّريقَةِ يَلتَمِسون تِلكَ الفَضيلَةَ ، نَبَذوا طُغيانَهُم مِن الإيرادِ بِالشَّهَواتِ لِما بَلَغَهُم في الكِتابِ مِن المَثُلاتِ ، حَمِدوا
رَبَّهُم على ما رَزَقَهُم و هُو أهلُ الحَمدِ ، و ذَمُّوا أنفُسَهُم على ما فَرَّطوا و هُم أهلُ الذَّمِّ ، و عَلِموا أنّ اللّه َ تباركَ و تعالى الحَليمُ العَليمُ ، إنّما غَضَبُهُ على مَن لَم يَقبَلْ مِنهُ رِضاهُ ، و إنّما يَمنَعُ مَن لَم يَقبَلْ مِنهُ عَطاهُ ، و إنّما يُضِلُّ مَن لَم يَقبَلْ مِنهُ هُداهُ
ثُمّ أمكَنَ أهلَ السَّيّئاتِ مِنَ التَّوبَةِ بِتَبديلِ الحَسَناتِ ، دَعا عِبادَهُ في الكِتابِ إلى ذلكَ بصَوتٍ رَفيعٍ لَم يَنقَطِعْ و لَم يَمنَعْ دُعاءَ عِبادِهِ ، فلَعَنَ اللّه ُ الّذينَ يَكتُمونَ ما أنزَلَ اللّه ُ
و كَتَبَ على نَفسِهِ الرَّحمَةَ فسَبَقَت قَبلَ الغَضَبِ فتَمَّتْ صِدقا و عَدلاً ، فلَيس يَبتَدئُ العِبادَ بِالغَضَبِ قَبلَ أن يُغضِبوهُ ؛ و ذلكَ مِن عِلمِ اليَقينِ و عِلمِ التَّقوى . و كُلُّ اُمَّةٍ قَد رَفَعَ اللّه ُ عَنهُم عِلمَ الكِتابِ حِينَ نَبَذُوهُ و وَلاّهُم عَدُوَّهُم حِينَ تَوَلَّوهُ ، و كانَ مِن نَبذِهِمُ الكِتابَ أن أقامُوا حُروفَهُ و حَرَّفوا حُدودَهُ فهُم يَروونَهُ و لا يَرعَونَهُ ، و الجُهّالُ يُعجِبُهُم حِفظُهُم لِلرِّوايَةِ و العُلَماءُ يَحزُنُهُم تَركُهُم للرِّعايَةِ . و كانَ مِن نَبذِهِمُ
الكِتابَ أن وَلَّوهُ الّذينَ لا يَعلَمونَ .، فأورَدُوهُمُ الهَوى و أصدَرُوهُم إلَى الرَّدى و غَيَّروا عُرَى الدِّينِ ، ثُمَّ وَرَّثوهُ في السَّفَهِ و الصِّبا .، فالاُمَّةُ يَصدُرونَ عَن أمرِ النّاسِ بَعدَ أمرِ اللّه ِ تباركَ و تعالى و علَيهِ يَرِدونَ ، فبِئسَ لِلظّالِمينَ بَدَلاً وَلايَةُ النّاسِ بَعدَ وَلايَةِ اللّه ِ .، و ثَوابُ النّاسِ بَعدَ ثَوابِ اللّه ِ ، و رضا النّاسِ بَعدَ رِضا اللّه ِ ، فأصبَحَتِ الاُمّةُ كذلكَ و فيهِمُ المُجتَهِدونَ في العِبادَةِ على تِلكَ الضّلالَةِ ، مُعجَبونَ مَفتونونَ ، فعِبادَتُهُم فِتنَةٌ لَهُم و لِمَنِ اقتَدى بهِم
و قَد كانَ في الرُّسلِ ذِكْرى للعابِدينَ ؛ إنّ نَبيّا مِن الأنبياءِ كانَ يَستَكمِلُ الطّاعَةَ .،
ثُمّ يَعصي اللّه َ تباركَ و تعالى في البابِ الواحِدِ فخَرَجَ بهِ مِن الجَنَّةِ .و يُنبَذُ بهِ في بَطنِ الحُوتِ ، ثُمّ لا يُنجيهِ إلاّ الاعتِرافُ و التَّوبَةُ . فاعرِفْ أشباهَ الأحبارِ و الرُّهبانِ الّذينَ سارُوا بكِتمانِ الكِتابِ و تَحريفِهِ فما رَبِحَت تِجارَتُهُم و ما كانُوا مُهتَدينَ ، ثُمّ اعرِفْ أشباهَهُم مِن هذهِ الاُمَّةِ الّذينَ أقامُوا حُروفَ الكِتابِ و حَرَّفوا حُدودَهُ .فهُم مَعَ السّادَةِ و الكَبَرَةِ .، فإذا تَفَرَّقَت قادَةُ الأهواءِ كانُوا مَعَ أكثَرِهِم دُنيا و ذلكَ مَبلَغُهُم مِن العِلمِ .لا يَزالونَ كذلكَ في طَبَعٍ و طَمَعٍ ، لا يَزالُ يُسمَعُ صَوتُ إبليسَ علَى
ألسِنَتِهِم بِباطِلٍ كَثيرٍ ، يَصبِرُ مِنهُم العُلَماءُ علَى الأذى و التَّعنيفِ ، و يَعِيبونَ علَى العُلَماءِ بِالتَّكليفِ .و العُلَماءُ في أنفُسِهِم خانَةٌ إن كَتَموا النَّصيحَةَ ، إن رَأوا تائها ضالاًّ لا يَهدونَهُ أو مَيِّتا لا يُحيُونَهُ ، فبِئسَ ما يَصنَعونَ ! لأنَّ اللّه َ تباركَ و تعالى أخَذَ علَيهِمُ المِيثاقَ في الكِتابِ أن يَأمُروا بِالمَعروفِ و بما اُمِروا بهِ ، و أن يَنهَوا عَمّا نُهُوا عَنهُ ، و أن يَتَعاوَنوا علَى البِرِّ و التَّقوى و لا يَتَعاوَنوا علَى الإثمِ و العُدوانِ ، فالعُلَماءُ مِن الجُهّالِ في جَهدٍ و جِهادٍ ؛ إن وَعَظَت قالوا : طَغَت ، و إنْ عَلِموا الحَقَّ .الّذي تَرَكوا قالوا : خالَفَت ، و إنِ اعْتَزَلوهُم قالوا : فارَقَت ، و إن قالوا : هاتُوا بُرهانَكُم على ما تُحَدِّثونَ قالوا : نافَقَت ، و إن أطاعُوهُم قالوا : عَصَيتِ .اللّه َ عَزَّ و جلَّ ! فهَلَكَ جُهّالٌ فيما لا يَعلَمونَ ، اُمِّيُّونَ فيما يَتلُونَ ، يُصَدِّقونَ بِالكِتابِ عِندَ التَّعريفِ .
و يُكَذِّبونَ بهِ عِندَ التَّحريفِ ، فلا يُنكَرونَ . اُولئكَ أشباهُ الأحبارِ و الرُّهبانِ : قادَةٌ في الهَوى ، سادَةٌ في الرَّدى
و آخَرُونَ مِنهُم جُلوسٌ بَينَ الضَّلالَةِ و الهُدى ، لا يَعرِفونَ إحدى الطّائفَتَينِ مِن الاُخرى ، يَقولونَ ما كانَ النّاسُ يَعرِفونَ هذا و لا يَدرُونَ ! ما هُو ، و صَدَقوا ! تَرَكَهُم رسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله علَى البَيضاءِ .لَيلُها مِن نَهارِها، لَم يُظهِرْ فيهِم بِدعَةً و لَم يُبَدِّلْ فيهِم سُنَّةً ، لا خِلافَ عِندَهُم و لا اختِلافَ ، فلَمّا غَشِيَ النّاسَ ظُلمَةُ خَطاياهُم صارُوا إمامَينِ : داعٍ إلَى اللّه ِ تباركَ و تعالى و داعٍ إلَى النّارِ ، فعِندَ ذلكَ نَطقَ الشَّيطانُ فعَلا صَوتُهُ على لِسانِ أوليائهِ ، و كَثُرَ خَيلُهُ و رَجِلُهُ .، و شارَكَ في المالِ و الوَلَدِ مَن أشرَكَهُ فعَمِلَ بِالبِدعَةِ و تَركَ الكِتابَ و السُّنَّةَ ، و نَطقَ أولياءُ اللّه ِ بِالحُجَّةِ و أخَذوا بِالكِتابِ و الحِكمَةِ ، فتَفَرَّقَ مِن ذلكَ اليَومِ
أهلُ الحَقِّ و أهلُ الباطِلِ ، و تَخاذَلَ .و تَهادَنَ أهلُ الهُدى ، و تَعاوَنَ أهلُ الضَّلالَةِ؛ حَتّى كانَتِ الجَماعَةُ مَع فُلانٍ و أشباهِهِ ، فاعرِفْ هذا الصِّنفَ
و صِنفٌ آخَرُ فأبصِرْهُم رَأيَ العَينِ نُجَباءَ .و الزَمْهُم حتّى تَرِدَ أهلَكَ ؛ فإنَّ الخاسِرينَ الّذينَ خَسِروا أنفُسَهُم و أهلِيهِم يَومَ القِيامَةِ ، ألا ذلكَ هُو الخُسرانُ المُبينُ
«قالَ الشيخُ الكُلينيُّ قدس سره: إلى هاهُنا روايةُ الحسينِ ، و في روايةِ محمّدِ بن يحيى زِيادَةُ» :
لَهُم عِلمٌ بِالطَّريقِ ، فإن كانَ دُونَهُم بَلاءٌ فلا تَنظُرْ إلَيهِم ، فإن كانَ دُونَهُم .عَسفٌ مِن أهلِ العَسفِ و خَسفٌ .، و دُونَهُم بَلايا
تَنقَضي ، ثُمَّ تَصيرُ إلى رَخاءٍ . ثُمّ اعلَمْ أنّ إخوانَ الثِّقَةِ ذَخائرُ بَعضُهُم لبَعضٍ ، و لَو لا أن تَذهَبَ بِكَ الظُّنونُ عَنّي .لَجَلَّيتُ لَكَ عَن أشياءَ مِن الحَقِّ غَطَّيتُها ، و لَنَشَرتُ لَكَ أشياءَ مِن الحَقِّ كَتَمتُها و لكنِّي أتَّقيكَ و أستَبقيكَ ، و لَيس الحَليمُ الّذي لا يَتَّقي أحَدا في مَكانِ التَّقوى ، و الحِلمُ لِباسُ العالِمِ فلا تَعرَيَنَّ مِنهُ ، و السَّلامُ .